{الر تلك آيات الكتاب المبين * إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون * نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين}
قد ذكرنا أن يعقوب كان له من البنين اثنا عشر ولدا ذكرا, وإليهم تنسب أسباط بني إسرائيل كلهم, وكان أشرفهم وأجلهم وأعظمهم يوسف عليه السلام, وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أنه لم يكن فيهم نبي غيره, وباقي إخوته لم يوح إليهم, وظاهر ما ذكر من فعالهم ومقالهم في هذه القصة يدل على هذا القول.
عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم)).
قال المفسرون وغيرهم: رأى يوسف عليه السلام وهو صغير قبل أن يحتلم كأن {} أحد عشر كوكبا وهم إشارة إلى بقية أخوته {} والشمس والقمر هما عبارة عن أبويه قد سجدوا له, فهاله ذلك.
فلما استيقظ قصها على أبيه, فعرف أبوه أنه سينال منزلة عالية, ورفعة عظيمة في الدنيا والآخرة, بحيث يخضع له أبواه وإخوته فيها, فأمره بكتمانها وأن لا يقصها على إخوته كيلا يحسدوه, ويبغوا له الغوائل, ويكيدوه بأنواع والمكر الحيل.
ولهذا جاء في بعض الآثار: استعينوا على قضاء حوائجكم بكتمانها, فإن كل ذي نعمة محسود.
{} وكذلك يجتبيك ربك أي: وكما أراك هذه الرؤيا العظيمة فإذا كتمتها {} يجتبيك ربك أي: يخصك بأنواع اللطف والرحمة. {ويعلمك من تأويل الأحاديث} أي: يفهمك من معاني الكلام وتعبير المنام ما لا يفهمه غيرك.
{ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب} أي: إليك بالوحي.
{كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق} أي: ينعم عليك ويحسن إليك بالنبوة كما أعطاها أباك يعقوب, وجدك إسحاق, ووالد جدك إبراهيم الخليل.
لهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل أي الناس أكرم?
قال: ((يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله)).
{لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين * إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين * اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين * قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين}
ينبه تعالى على ما في هذه القصة من الآيات والحكم, والدلالات والمواعظ والبينات, ثم ذكر حسد إخوة يوسف له على محبة أبيه له ولأخيه, يعنون شقيقه لأمه بنيامين أكثر منهم, وهم عصبة أي: جماعة يقولون: فكنا نحن أحق بالمحبة من هذين.
{إن أبانا لفي ضلال مبين} أي: بتقديمه حبهما علينا. ثم اشتوروا فيما بينهم في قتل يوسف, أو إبعاده إلى أرض لا يرجع منها, ليخلو لهم وجه أبيه أي لتتمحض محبته لهم, وتتوفر عليهم وأضمروا التوبة بعد ذلك, فلما تمالؤا على ذلك, وتوافقوا عليه . {قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة} أي: المارة من المسافرين.
فإن كنتم فاعلين لا محالة, فليكن هذا الذي أقول لكم فهو أقرب حالا من قتله أو نفيه وتغريبه, فأجمعوا رأيهم على هذا فعند ذلك طلبوا من أبيهم أن يرسل معهم أخاهم يوسف, وأظهروا له أنهم يريدون أن يرعى معهم, وأن يلعب وينبسط, وقد أضمروا له ما الله به عليم, فأجابهم الشيخ عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم: يا بني يشق علي أن أفارقه ساعة من النهار, ومع هذا أخشى أن تشتغلوا في لعبكم وما أنتم فيه, فيأتي الذئب فيأكله, ولا يقدر على دفعه عنه لصغره وغفلتكم عنه
{قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون} أي: لئن عدا عليه الذئب فأكله من بيننا, أو اشتغلنا عنه حتى وقع هذا ونحن جماعة, إنا إذا لخاسرون أي: هالكون عاجزون.
{فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون * وجاؤوا أباهم عشاء يبكون * قالوا ياأبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين * وجاؤوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون}
لم يزالوا بأبيهم حتى بعثه معهم, فما كان إلا أن غابوا عن عينيه, فجعلوا يشتمونه ويهينونه بالفعال والمقال, وأجمعوا على إلقائه في غيابت الجب أي: في قعره على راعوفته, وهي الصخرة التي تكون في وسطه, يقف عليها المائح - وهو الذي ينزل ليملي الدلاء إذا قل الماء - والذي يرفعها بالحبل يسمى الماتح.
فلما ألقوه فيه, أوحى الله إليه أنه لا بد لك من فرج ومخرج من هذه الشدة التي أنت فيها, ولتخبرن إخوتك بصنيعهم هذا, في حال أنت فيها عزيز وهم محتاجون إليك, خائفون منك
وذكر بكاء إخوة يوسف, وقد جاءوا أباهم عشاء يبكون, أي في ظلمة الليل ليكون أمشى لغدرهم
} قالوا ياأبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا} أي ثيابنا {} فأكله الذئب أي: في غيبتنا عنه في استباقنا.
وقولهم {وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين} أي: وما أنت بمصدق لنا في الذي أخبرناك من أكل الذئب له, ولو كنا غير متهمين عندك, فكيف وأنت تتهمنا في هذا, فإنك خشيت أن يأكله الذئب, وضمنا لك أن لا يأكله لكثرتنا حوله, فصرنا غير مصدقين عندك, فمعذور أنت في عدم تصديقك لنا والحالة هذه.
{وجاؤوا على قميصه بدم كذب} أي: مكذوب مفتعل, لأنهم عمدوا إلى سخلة ذبحوها, فأخذوا من دمها فوضعوه على قميصه, ليوهموا أنه أكله الذئب, قالوا ونسوا أن يخرقوه, وآفة الكذب النسيان.
ولما ظهرت عليهم علائم الريبة لم يرج صنيعهم على أبيهم, فإنه كان يفهم عداوتهم له, وحسدهم إياه على محبته له من بينهم أكثر منهم, لما كان يتوسم فيه من الجلالة والمهابة التي كانت عليه في صغره, لما يريد الله أن يخصه به من نبوته.
ولما راودوه عن أخذه, فبمجرد ما أخذوه أعدموه, وغيبوه عن عينيه, جاؤا وهم يتباكون وعلى ما تمالئوا عليه يتواطئون, ولهذا {قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون}.
وعند أهل الكتاب: أن روبيل أشار بوضعه في الجب, ليأخذه من حيث لا يشعرون, ويرده إلى أبيه, فغافلوه وباعوه لتلك القافلة. فلما جاء روبيل من آخر النار ليخرج يوسف لم يجده, فصاح وشق ثيابه, وعمد أولئك إلى جدي فذبحوه, ولطخوا من دمه جبة يوسف, فلما علم يعقوب شق ثيابه, ولبس مئزرا أسود وحزن على ابنه أياما كثيرة, وهذه الركاكة جاءت من خطئهم في التعبير والتصوير .
و قال تعالى: {وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يابشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون * وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين}
يخبر تعالى عن قصة يوسف حين وضع في الجب:
أنه جلس ينتظر فرج الله ولطفه به, فجاءت سيارة أي: مسافرون. قاصدين ديار مصر من الشام, فأرسلوا بعضهم ليستقوا من ذلك البئر, فلما أدلى أحدهم دلوه تعلق فيه يوسف, فلما رآه ذلك الرجل:
{} قال يابشرى أي: يا بشارتي
{هذا غلام وأسروه بضاعة} أي: أوهموا أنه معهم غلام من جملة تجارتهم
ولما استشعر إخوة يوسف بأخذ السيارة له لحقوهم وقالوا هذا غلامنا أبق منا, فاشتروه منهم بثمن بخس أي: قليل نزر. وقيل: الزيف هو.
{دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين} قال ابن مسعود: باعوه بعشرين درهما, اقتسموها درهمين درهمين.