أبو الجراحة في السودان
· حتى العام 1949 لم يكن بالسودان أي اختصاصي سوداني في الجراحة أو أي من فروعها، كان الأطباء قبل ذلك يبتعثون لفترات لا تزيد على الثلاثة أشهر للحصول على خبرة فوق الجامعية فكان دكتور على بدري ودكتور حسين أحمد حسين من أوائل من استفاد من هذه البعثات القصيرة في 1937.
· كان دكتور عبد الحميد بيومي أول طبيب سوداني يتأهل جراحاً عاماً واستحق بذلك لقب (أبو الجراحة في السودان) كما جرى العرف بين الأطباء السودانيين في تسمية أول من يتخصص في مجاله، فكان دكتور عبد الحليم محمد هو أبو الطب الباطني ودكتور حسين أحمد حسين أبو طب العيون ودكتور التجاني الماحي أبو الطب النفسي ليس في السودان فحسب بل في إفريقيا، إلى آخر القائمة.
· ولد دكتور بيومي في 13 مارس 1911 بمدينة مروي وأكمل المرحلة الابتدائية هناك ثم الثانوية في الخرطوم، وتخرج في مدرسة كتشنر الطبية (كلية الطب، جامعة الخرطوم حالياً) عام 1934 مع خمسة آخرين هم دكتور حبيب عبد الله، ودكتور اديب عبد الله، ودكتور إبراهيم عباس أبو الريش، ودكتور سليمان بسيوني، ودكتور منصور على حسيب. إنفرد كل واحد من هؤلاء الأوائل في مجال تخصص فيه فكان دكتور أديب عبد الله أول اختصاصيي الأطفال ودكتور حبيب عبد الله أول اختصاصيي الأشعة ودكتور منصور على حسيب أول اختصاصيي علم الباكتيريا وأول عميد سوداني لكلية الطب، جامعة الخرطوم.
· عمل دكتور بيومي بعد تخرجه في مستشفيات أم درمان، الخرطوم بحري وبورتسودان وتوريت التي قضى فيها خمسة أعوام تعلم خلالها لغة الباريا ثم في مستشفيات أبو عشر وواو ثم نقل إلى الخرطوم في العام 1945 ليعمل نائباً في الجراحة ومساعداً لمستر بارثلوميو كبير الجراحين البريطانيين آنذاك.
· في العام 1947، ابتعثت وزارة الصحة دكتور بيومي للملكة المتحدة للتخصص في الجراحة فقضى عامين في ادنبرة باسكتلندا توجها بنيله زمالة كلية الجراحين الملكية هناك ثم أعقبها بزمالة أخرى من الكلية الملكية بقلاسقو. والزمالة في أي من الكليات الملكية في انجلترا أو أدنبرا أو قلاسقو أو أيرلندا هي الشهادات المعترف بها آنذاك في بريطانيا وإلى الآن التي تؤهل حاملها جراحاً.
· رجع دكتور بيومي إلى السودان في العام 1949 ليشغل منصب الجراح المسئول في مستشفى أم درمان خلفاً لمستر بارثلوميو الذي ترقى كبيراً للجراحين ومحاضراً في الجراحة في مستشفى الخرطوم الملكي.
· في العام 1953 ترقى دكتور بيومي إلى درجة كبير الجراحين ومحاضراً في الجراحة بوزارة الصحة السودانية (مسودناً) وظيفة مستر بارثلوميو التي كانت حكراً على البريطانيين إلى ذلك الوقت.
· عمل دكتور بيومي جراحاً ثلاثين سنة متواصلة في وزارة الصحة (1935-1965) أحيل بعدها للمعاش في العام 1966، لكنه واصل عطاءه فأنشأ مع نفر من خيرة الأطباء مستوصف الامتداد الجديد في شارع 27 بالخرطوم، وعمل جراحاً فيها وفي مستشفى الراهبات ومستشفى (دار الشفا) في الخرطوم، كما مارس العمل الخاص في عيادة شارك فيها زميله دكتور حبيب عبد الله لكن لفترة وجيزة.
· عين دكتور بيومي في 1984 أستاذاً (بروفيسور) في كلية الطب، جامعة الخرطوم التي عمل فيها بالمشاهرة لفترة امتدت إلى 1999 درس خلالها مادة التشريح لطلاب الطب وطلاب الدراسات العليا وأسهم مساهمة فاعلة في تطوير قسم التشريح بالكلية.
· وضع بيومي اللبنات الأولى لتخصص الجراحة في السودان وأرسى الأسس القويمة لأدب وفن وإدارة هذه المهنة، وتقديراً لجهوده هذه ولخدمته الطويلة الممتازة منحته الدولة وسام الجمهورية من الطبقة الأولى في العام 1978 ومنحته جامعة الخرطوم الدكتوراة الفخرية في العلوم في العام 1982، كما منحته دولة الفاتيكان وساماً رفيعاً تقديراً لجهوده الخيرة. اختير دكتور بيومي أول رئيس مؤسس لجمعية الجراحين السودانيين ثم شغل ذلك المنصب عدة مرات في الثمانية سنوات الأولى من عمر الجمعية.
· نال دكتور بيومي مثله مثل كل أبناء جيله من الأطباء الاحترام والإعجاب والتقدير من كل فئات المجتمع لكفاءتهم وجهدهم المتواصل في تجويد صنعتهم وتفانيهم في خدمة مرضاهم. يقول دكتور عبد الله أحمد دفع الله أحد تلاميذ دكتور بيومي من غير الجراحين: "وجدنا في دكتور بيومي (ونحن طلاب في كلية الطب ثم أطباء حديثي التخرج) الطبيب الإنسان والجراح الماهر المقتدر والاستاذ والمعلم والشخصية المرموقة المنضبطة، كان نموذجاً للدقة والإتقان وتميز بالهدوء والتواضع الجم وحسن المظهر والأناقة والبساطة في الملبس، فكان يفضل الشورت أو البنطلون والقميص الأبيض وهو زي يلائمه ويتناسب مع لون شعره الأبيض الناصع البياض. كانت له هيبة وحضور متميز يعمل في صمت ولا يحب الأضواء برغم شهرته ومكانته الرفيعة في المجتمع."
· مارس الأطباء السودانيين الذين تخرجوا في كلية كتشنر الطبية منذ العام 1928 الجراحة بأنواعها في حدود مهارات الطبيب العمومي وباشروا التخدير بالإيثر والكلوروفورم والبنج النصفي بأنفسهم أو بمساعدة (محضري العملية) الذين كانوا يعملون تحت إشرافهم ومسئوليتهم. أيضاً، ولفترة غير قصيرة كان الجراحون يقومون بكل أنواع الجراحة، وفي هذا المجال ما زال كبار الجراحين يذكرون تعدد مهارات مستر بيومي الجراحية حين كان يبدأ صباحه بعمليات إزالة اللوزات، ثم يتنقل لعملية إزالة غدة درقية أو مرارة، فقيصرية ويختم يومه ببعض عمليات الكسور، مشرفاً بنفسه على التخدير الذي يعطيه محضر العملية.
· توفي دكتور بيومي في 24 يناير 2004 بعد حياة مليئة بالإنجازات وبأعمال الخير وترك خلفه ذرية صالحة هم دكتور منى ودكتور مجدي وميرفت وعدداً لا يحصى من الجراحين الذين تدربوا على يديه وتعلموا منه وحفظوا فضله وعدداً آخر من الأطباء تأثروا بنهجه القويم وما فتئوا يذكرونه ويترحمون عليه.