//////// رواية مغربية كتبت من أجل راحة القلب //////////

//أحلام الشباب النضالية المحبطة والأفكار العبثية عن محنة الإنسان تتنازع «امرأة النسيان» لمحمد برادة//

فؤاد التكرلي

حين
انتهيت من قراءة «امرأة النسيان» الرواية الاخيرة للدكتور محمد برادة،
تكاثرت الاسئلة في ذهني بشكل غير متوقع. أهي تكملة لروايته الاولى المميزة
«لعبة النسيان» التي صدرت عام 1987؟ أم هي شرح متأخر لها؟ أم ترديد، مختلف
النبرة، لنغماتها وروحها؟

لم يكن الجواب سهلا ولا في متناول اليد، فهذه رواية اسئلة لا تنتهي، واغلب هذه الاسئلة تملؤه المرارة والخيبة والاحباط.

انها،
امرأة النسيان هذه، رواية مخاتلة تثبت تخييلا سابقا بتخييل آخر جديد،
فيتملكك شعور بأن التخييل الاول صار واقعا مسنودا لا شك فيه، ثم ينعكس هذا
العشور مرتدا على التخييل الثاني الجديد، فيمنحه سمكا خاصا من الواقع
ويمنحه طراوة وجدة.

ولأني
لم انته، من خلال هذه الافتراضات، الى اجوبة شافية، فقد عدت ابدل من
اسئلتي واغير في اسسها، لعل ذلك يفتح بابا لأجوبة صحيحة، ولكن.. دون جدوى.

رواية
«امرأة النسيان» صدرت عن دار «الفنك» المغربية عام 2001، بغلاف صبوح من
تصميم الفنانة خديحة قباج وهي في 133 صفحة من القطع الصغير، مطبوعة على
ورق شاحب مريح للعين.

تبدأ
الصفحات الاولى من الرواية مع السارد سارحا بأفكاره حول الخطاب الذي وجهته
«سالومي» اوسكار وايلد لرأس يوحنا المعمدان المقطوع، حين يرن جرس الهاتف
معلنا عن انبعاث شخصية «ف. ب» النسائية التي سبق لها ان عاشت في رواية
«لعبة النسيان».

«ف.
ب» هذه شخصية ملغزة بدءا وانتهاء، وهي كما قلت آنفا، اذ تدعم تخييلا قديما
بتخييل جديد تصبو ان تمتلك حقيقة واقعية وان تبعد عنها سجف الخيال، من اجل
ان تكتمل ـ او تنتهي؟ ـ حياتها الصاخبة الماضية.

ترسل
«ف. ب» اذن، صديقة لها ترجو من السارد ان يقوم بزيارة لها، فلا يعترض رغم
دهشته ورغم ادراكه بغموض ان في الامر لعبة من نوع خاص لا يعرفها.

يلتقيان
في دارتها، فتحدثه «ف. ب» حديثا ملؤه المرارة والحزن والحكمة وترجوه ان
يزورها مرة ثانية لأن ايامها في الحياة معدودة، فهي شبه سجينة ومريضة
ومنبوذة من اهلها ومجتمعها.

ومع
انقضاء هذه الزيارة الغريبة، تنقلب الصفحة في الرواية وينفتح الافق فيها
على وجه العملة الآخر.. على الرمز الآخر. نحن في عام 1998، وهو تاريخ مهم
له دلالاته في الرواية، والسارد يعود الى المغرب من سفر فيتصل به صديق
قديم ليدعوه الى حفلة عشاء موسعة يحضرها عدد من الاخوان.

وقبل
ان يحضر السارد هذه الحفلة، يقدم لنا خفية وببراعة نبذة عن ماضيه هو وماضي
هذا الصديق. كلاهما مناضلان حزبيان قديمان في الحزب المعارض سابقا، الذي
تسلم السلطة منذ سنوات.

الصديق
داخل في لعبة الحكم بشكل من الاشكال، اما السارد فهو اصدق فكراً وانقى
طوية من ان يقبل بالحقائق المرة التي تبدت له قبل ذلك وأخذ يرى ملامحها
خلال الحفلة في رفاق الحزب الذين تسلموا الحكم ولم يعودوا كما كانوا، بل
انغمسوا في قضايا السلطة المادية والمنصبية بحيث صار السارد يتساءل عدة
مرات بينه وبين نفسه:

أعرفهم أم لا أعرفهم؟

ذلك
ان موجة الحكم جرفت هؤلاء المناضلين، فتكالبوا على نيل المناصب وتبرجزوا:
«الآن فقط، اقرأ واسمع بعض قادة الحزب يقولون، من فوق كراسيهم، بأن سبب
ازمة منظمتنا هو تبرجزنا، وليس هناك تحديد لمن يعود عليهم ضمير الجماعة،
وليس هناك توصيف لهذا التبرجز ولا تعيين لبداياته. سبحان الله! هل ذلك
التبرجز قد نزل هكذا فجأة من سماء واطئة؟ أم اننا اغمضنا العين وفتحناها
بين يوم وليلة فوجدنا ان كل شيء تغير، وهو ما دفع مناضلي الأمس الى
الاستقالة او التفرج او الاندماج السريع في طقوس السلطة وانتقالات
الحكم؟».

ليس
هذا كلام معلق سياسي يحلل الامور التي جرت، بل هو كلام مناضل مخلص اصيب
باحباط كبير جراء الانحراف الخطير الذي مارسه الحزب، هذا الحزب الذي كان
موضع امله وآمال الطبقات المسحوقة. وهو اذ يخرج تاركا اللعبة التي تمارس
في الحفلة، يصف حالته بعد ان اوصله الصديق الى حيث يقيم بقوله: «اما انا
فقد خيل اليّ ان هواجس الغربة والوحدة بدأت تلفني من جديد. وهذا في ظني
اكثر الاقوال مرارة، يصدر عن مناضل كان مؤمنا بأن الغربة او الوحدة لن
تطولاه ما دام بين رفاقه مناضلي الحزب».

يزور
السارد «ف. ب» ثانية ويجلسان يتحاوران ويتبادلات الشجون في هذا الفصل،
تبرز شخصيتان جديدتان تحملان دلالات تعمل، في اعتقادي، على دعم الرمز
الكبير الذي يحكم الرواية.

الشخصية
الاولى هي «الضاوية» او «اضواء»، تحدثه عنها «ف. ب». هي فتاة من الريف
كانت في خدمة العائلة، ثم صارت تعتني بـ «ف. ب» بعد عودة هذه الاخيرة من
باريس، وكانت هذه الخادمة صلة وصل تربط «ف. ب» بالعائلة التي كانت تسكن
طابقا آخر في العمارة نفسها. وتتقلب الايام بهذه «الضاوية» فتدخل عن طريق
خطيب موهوم الى دنيا الدعارة وينقلب اسمها الى «اضواء» حسب متطلبات هذه
المهنة.

«ف.
ب» تخشى على خادمتها السابقة من مخاطر المهنة التي تمارسها ومن مصير سيئ
ينتظرها. ويصدق حدسها، فتلاقي «اضواء» مصيرا مفجعا حين تقتل وهي بصحبة
مهرب مخدرات.

الشخصية
الثانية التي تنبعث من بين صفحات الرواية هي شخصية «ابن عريش». شاب مغربي
شكل واصحاب له عصبة في مدينة «تازة»، اخذت تتربص بأولئك الرجال والنساء من
الطبقات العليا الحاكمة، وهم يقبلون الى مغارة منعزلة عن المدينة ينشدون
فيها التحرر من الرقابة الاجتماعية، ظنا منهم الا رقيب عليهم ولا حسيب.
واذ يخلدون الى خلوتهم الحميمية، ينقض عليهم اعضاء العصبة شاهرين السلاح
ويضطرونهم الى التعري ثم يصورنهم وهم في اوضاع فاضحة ويشمونهم في مناطق
حساسة من اجسادهم ثم يتركونهم لحالهم بعد ان يفرضوا عليهم تقديم مبالغ من
المال نظير اعادة التصاوير اليهم.

ويخبر
السارد «ف. ب» بأنه في تلك الفترة المظلمة من الحكم المتسلط، ظن ان وقائع
العصبة تلك قد يكون لها تفسير ثوري، فاستقر رأيه على مقابلة «ابن عريش» في
سجنه. ذلك ان افراد العصبة كان قد القي عليهم القبض وحوكموا بسرية تامة ثم
حكم عليهم بالسجن لمدة عشرين عاما.

لم
تكن المقابلة ناجحة على المستوى الذي اراده السارد، اذ ان ابن عريش لم
يكترث باسماع صوته الى الآخرين ولم يهتم بتبرير الاعمال التي قام بها هو
وعصبته، فقد كان يعتقد ان وقت مساعدتهم قد ولى، لذلك فهو واصحابه يخططون
لاعمال اخرى لا علاقة لها بالفضائح تجنبا للوقوع في ايدي البوليس ثانية،
كما ينبه «ابن عريش» السارد الى ما يجري هذه الايام من عنف شديد هو، في
نظره، ضروري لتوازن المجتمع. يتراجع السارد عن فكرته بالكتابة عن هذا
الرجل، «فأي شيء تفيد الكتابة عن رجل يقول بالفم الملآن وباقتناع كامل انه
لا يريد ان ينتمي الى هذا المجتمع الذي نحاول ان ننحت كيانه، مجددا، من
كلمات وقيم لا وجود لها في الحياة الفعلية؟».

في
ظني، ان السارد اخطأ في احجامه عن كتابة روايته عن «ابن عريش»، فهذا
الرجل، الذي يجب ان نعترف بأنه مجرم وليس مصلحا اجتماعيا، يحتاج لمن يكشف
عن سريته ويسبر اعماق ذهنه الواعي واللاواعي، لكي يمكننا ان نعقل الظروف
التي ادت به الى الانحراف بحياته نحو طريق الاجرام.

من جهة اخرى، ليس بمقدورنا ان نأخذ اقواله على علاتها كتفسير صحيح لنفسيته وموقفه، اذ ان تحليل اعماله يتجاوز قدرته الفكرية.

في
الفصل الرابع يعود السارد الى موضوع الفصل الثاني ولكن بوجه آخر اكثر
سخرية وتهكما، فهو، في خضم حلم طويل، يصور لنا احدى تلك الاجتماعات
الحزبية القديمة وكأنها، في تكرارها، تعاود تذكيره بمدى ما كانت تحتويه من
سفسطة كلامية وثرثرة فارغة. غير ان الحلم يتضمن ايضا موقف وداع بين السارد
و«ف. ب» هو اشبه بالنبوءة والاشارة الى احداث مستقبلية. تقول له «ف. ب» في
الحكم: انا سأرحل عن هذه الحياة قريبا وانت ستستمر بعدي.

وهي
تموت بالفعل، غير ان الحوار معها يتواصل عبر متابعة استيهامية لطيفها، وفي
هذا الحوار يقول السارد ما اظنه الجوهر الاساس لرواية «امرأة النسيان».

انا
لا اسعى الى اكثر من ان اعبر عن حالة اهتزاز، حالة انفصام، طموح لم يتم
امتلأت به النفس في عنفوان الشباب، واظن ان الكثير من ما احاول كتابته
مشروط بمساري وبعلاقتي مع من حولي.

في
اعتقادي، ان هذه الرواية تتناول بالتعبير عن بنيتين متداخلتين مع بعضهما
بحيث لا نكاد نميز اية بنية منهما كانت هي الاساس واياً منهما كانت نتيجة
للاخرى.

هل
كان الانكشاف المؤلم لما آلت اليه احلام الشباب النضالية من اضمحلال
وتدهور، هو الذي ادى الى الشعور الطافح بالاحباط؟ أم هي تلك الافكار
العبثية عن الوجود البشري وعن محنة الانسان التي لا حل لها في هذه الحياة،
سيطرت على الذات فجاء بعدها، بالضرورة الانكشاف والاضمحلال والاحباط؟

اعتقد
ان العلاقة كانت ديالكتيكية وان التأثير والتأثر كانا متبادلين ومحتومين،
وان حالة «الاهتزاز» في المجتمع التي يشير اليها السارد قد تكون سببا
لنتائج اجتماعية خطيرة تظهر وتتخذ لها اسماء مختلفة مثل «ابن عريش» او
«اضواء».

«امرأة
النسيان» ليست رواية تصفية حسابات، بل هي رواية كتبت من اجل نشدان السلوى
وراحة القلب. وكم تبدو هذه المسميات بعيدة المنال في احيان كثيرة.

أرجو أن يعجبكم الموضوع