بلغ اهتمام الصحابة
بالْمحافظة على القرآن الغايةَ القصوى، فمع أنَّهم شاهدوا تلاوة القرآن من
النَّبِيّ ? عشرين سنة، ومع أن القرآن كان بالفعل مكتوبًا على عهد
النَّبِيّ ?، إلا أنه كان مفرَّقًا، ومع أن تزوير ما ليس منه كان مأمونًا،
ومع أن زيد بن ثابت (الذي قام بالجمع) كان هو وغيره من الصحابة يَحفظون
القرآن -فقد اتَّبعُوا في جمع القرآن على عهد أبي بكرٍ ? منهجًا دقيقًا
حريصًا، أعان على وقاية القرآن من كل ما لَحق النصوص الأخرى من مظنة الوضع
والانتحال.
ويُمكن تلخيص ذلك المنهج في النقاط الآتية:
1 - أن يأتي كلُّ من تلَقَّى شيئًا من القرآن من رَسُول اللهِ ? به إلى زيد
بن ثابت ومن معه.
ويدل لذلك ما رواه ابن أبي داود من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن عمر
بن الخطاب قام في الناس فقال: من كان تلقى من رَسُول اللهِ ? شيئًا من
القرآن فليأتنا به وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح و العُسُب، وكان لا
يقبل من أحد شيئًا حتى يشهد شهيدان.(1)
2 - أن لا يُقبل من أحدٍ شيءٌ حتى يشهد عليه شهيدان، أي أنه لم يكن يكتفي
بِمجرد وجدان الشيء مكتوبًا حتى يشهد عليه شهيدان.
ويدل على ذلك أثر عمر السابق، وكذلك قول أبي بكرٍ لعمر بن الخطاب ولزيد ابن
ثابت: اقعدا على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله
فاكتباه.(2)
وقد اختلف في المراد بالشهادة هنا:
فقال السخاوي
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]3) المراد أنَّهما يشهدان على
أنَّ ذلك المكتوب كُتِب بين يدي رَسُول اللهِ ?، أو المراد أنَّهما يشهدان
على أن ذلك من الوجوه التي نزل بِها القرآن.
وقال ابن حجر: وكأن الْمراد بالشاهدين الحفظ والكتاب.(4) ثم ذكر احتمال
الوجهين الأولين.
قال السيوطي: أو المراد أنَّهما يشهدان على أن ذلك مِمَّا عُرض على
النَّبِيّ ? عام وفاته.(5)
والذي يظهر -والله أعلم- أن المراد الشهادة على كتابته بين يدي النَّبِيّ
?، وأنه مِمَّا عُرض على جبريل في العام الذي توفي فيه رَسُول اللهِ ?، إذ
القرآن كان مَحفوظًا في صدور كثير من الصحابة ?، فلو أرادوا الإشهاد على
حفظه لوجدوا العشرات.
3 - أن يكتب ما يؤتى به في الصحف.
ويدلُّ عليه قول زيدٍ في حديث جمع القرآن السابق: وَكَانَتِ الصُّحُفُ
الَّتِي جُمِعَ فِيهَا الْقُرْآنُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ
اللهُ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ، ثُمَّ عِنْدَ
حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ.(6)
وما في موطَّأ ابن وهب عن ابن عمر قال: جمع أبو بكر القرآن في قراطيس.
وفي مغازي موسى بن عقبة عن الزهري قال: لَمّا أصيب المسلمون باليمامة فزع
أبو بكر، وخاف أن يذهب من القرآن طائفة، فأقبل الناسُ بما كان معهم وعندهم،
حتى جُمِع على عهد أبي بكر في الورق، فكان أبو بكر أول من جمع القرآن في
الصحف.(7)
4 - أن لا يُقبل مِمَّا يُؤتى به إلا ما تحقق فيه الشروط الآتية:
أ- أن يكون مكتوبًا بين يدي النَّبِيّ ?، لا من مُجرد الحفظ، مع المبالغة
في الاستظهار والوقوف عند هذا الشرط.
قال أبو شامة
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] وكان غرضهم ألا يُكتب إلا
من عين ما كُتب بين يدي النَّبِيّ ?، لا من مجرد الحفظ.(9)
ب- أن يكون مما ثبت عرضه على النَّبِيّ ? عام وفاته، أي في العرضة الأخيرة.
وذلك أن ما لم يثبت عرضه في العرضة الأخيرة لم تثبت قرآنيته، وقد مرَّ
قريبًا احتمال كون الإشهاد على أن المكتوب كان مِمَّا عرض في العرضة
الأخيرة.
وعن محمد بن سيرين عن كَثِير بن أفلَحَ قال: لَمَّا أراد عثمان أن يكتب
المصاحف جمع له اثني عشر رجلاً من قريش والأنصار، فيهم أُبَيُّ بن كعبٍ
وزيد بن ثابت، قال: فبعثوا إلى الرَّبعَةِ التي في بيت عُمَرَ، فجِيء بِها،
قال: وكان عثمانُ يتعاهدهم، فكانوا إذا تدارءوا في شيء أخَّروه، قال محمد:
فقلت لكَثِيرٍ -وكان فيهم فيمن يكتب: هل تدرون لم كانوا يُؤَخِّرونه؟ قال:
لا، قال محمد: فظننت أنَّهم إنَّما كانوا يُؤَخِّرونه لينظروا أحدثهم
عهدًا بالعرضة الآخرة، فيكتبونَها على قوله.(10)
5 - أن تكتب الآيات في سورها على الترتيب والضبط اللذين تلقاهما المسلمون
عن النَّبِيّ ?.(11)
وقد التُزم في هذا الجمع كل الضوابط السابقة بدقة صارمة، حتى إنه روي أَنَّ
عمر بن الخطاب أتى بآية الرجم، فلم تُقْبل منه؛ لأنه كان وحده.
فقد أخرج ابن أشتة في كتاب المصاحف عن الليث بن سعد، قال: أوَّل من جمع
القرآن أبو بكر، وكتبه زيدٌ، وكان الناس يأتون زيد بن ثابت، فكان لا يكتب
آية إلا بشاهدي عدل، وإن آخر سورة براءة لم توجد إلا مع خزيْمة بن ثابت،
فقال: اكتبوها؛ فإن رَسُول اللهِ ? جعل شهادته بشهادة رجلين، فكتب. وإن عمر
أتى بآية الرجم، فلم يكتبها؛ لأنه كان وحده.(12)
(1) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب جمع عمر بن الخطاب ? القرآن ص
17.
(2) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب جمع أبي بكر القرآن في المصاحف ص
12، قال الحافظ ابن حجر: رجاله ثقات مع انقطاعه. فتح الباري (8/630).
(3) هو الشيخ الإمام العلامة، شيخ القراء والأدباء، علم الدين أبو الحسن
علي بن محمد، أقرأ الناس دهرًا، وكان إمامًا في العربية، بصيرًا باللغة،
عالمًا بالقراءات وعللها، مجودًا لها، بارعًا في التفسير، وكان مع سعة
علومه وفضائله دينًا حسن الأخلاق محببًا إلى الناس، وافر الحرمة، ليس له
شغل إلا العلم ونشره. توفي سنة 643هـ. سير أعلام النبلاء (23/122)، وشذرات
الذهب (5/222)، والأعلام للزركلي (4/332).
(4) فتح الباري (8/630).
(5) الإتقان في علوم القرآن (1/167)، وانظر أيضًا نفس المرجع (1/142).
(6) سبق تخريجه قريبًا.
(7) انظر الإتقان في علوم القرآن (1/169)، وذكر هذين الأثرين ابن حجر في
فتح الباري (8/631)، وأشار إلى أنهما أصح ما نقل فيما جمع فيه القرآن في
عهد أبي بكر ? .
(
عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي الدمشقي، أبو القاسم شهاب الدين، المؤرخ
المحدث، ولي مشيخة دار الحديث الأشرفية، له تصانيف غزيرة، وقد وقفها
جميعًا. توفي سنة 665هـ. الأعلام للزركلي (3/299).
(9) انظر الإتقان في علوم القرآن (1/167)، وفتح الباري (8/630).
(10) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب جمع عثمان رحمة الله عليه
المصاحف ص 33.
(11) انظر فتح الباري (8/634).
(12) انظر الإتقان في علوم القرآن (1/167-168).