أولا: أعتذر عن إثارة مثل هذا السؤال, ولكي لا أترك مجالا للشك في نيتي,
أقول: إنني أشهد أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله, وإنني راض تمام الرضى بالله عز وجل ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا.
أسأل عن السنة, لأنه توجد روايات كثيرة لحديث واحد, فمثلا نجد في صحيح البخاري حديثا ما بأسلوب مخالف لما هو عليه في صحيح مسلم,
فلماذا لا تكون السنة مثل العظيم القرآن?
ما الفرق بين السنة المطهرة العظيم والقرآن? ه
ل السنة النبوية الشريفة هي من الوحي الذي يتنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم,
أم هي من أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم?
هل هي من خصائص النبوة ماذا أم?
أولا:
لا بد أن يستقر في عقل وقلب كل مسلم أن السنة - وهي ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير - هي أحد قسمي الوحي الإلهي الذي أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم, والقسم الآخر من الوحي هو القرآن الكريم .
قال تعالى (وما ينطق عن الهوى, إن هو إلا وحي يوحى) النجم / 3-4
وعن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه, ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن, فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه, وما وجدتم فيه من حرام فحرموه, ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله)
رواه الترمذي (2664) وقال: حسن غريب من هذا الوجه, وحسنه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2870)
وهذا ما فهمه السلف الصالح رضوان الله عليهم من ديننا الحنيف:
يقول حسان بن عطية "الكفاية" للخطيب (12):
"كان جبريل ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن" انتهى.
رواه الدامي في سننه (588) والخطيب الكفاية في (12), وعزاه الحافظ في الفتح (13/291) إلى البيهقي, قال: "بسند صحيح".
وأهمية السنة في كونها مبينة لكتاب الله وشارحة له أولا, ثم من كونها تزيد على ما في كتاب الله بعض الأحكام.
يقول الله تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) النحل / 44
يقول ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" (2 / 190):
"البيان منه صلى الله عليه وسلم على ضربين:
الأول: بيان المجمل في الكتاب العزيز, كالصلوات الخمس في مواقيتها وسجودها وركوعها وسائر الأحكام.
الثاني: زيادة حكم على حكم الكتاب, كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها "انتهى.
ثانيا:
لما كانت السنة القسم الثاني من أقسام الوحي, كان لا بد من حفظ الله تعالى لها, ليحفظ بها الدين من التحريف أو النقص أو الضياع.
يقول ابن حزم رحمه الله "الإحكام" (1 / 95):
"قال تعالى (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) الحجر / 9
وقال تعالى: (قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون) الأنبياء / 45
فأخبر تعالى أن كلام نبيه صلى الله عليه وسلم كله وحي, والوحي بلا خلاف ذكر, والذكر محفوظ بنص القرآن, فصح بذلك أن كلامه صلى الله عليه وسلم كله محفوظ بحفظ الله عز وجل, مضمون لنا أنه لا يضيع منه شيء, إذ ما حفظ الله تعالى فهو باليقين لا سبيل إلى أن يضيع منه شيء, فهو منقول إلينا كله, فلله الحجة علينا أبدا "انتهى.
ثالثا:
وإذا ثبت أن السنة من الوحي الإلهي, لا بد من التنبه إلى أن الفرق بينها وبين القرآن يكمن في أمر واحد فقط, وهو أن القرآن كلام الله تعالى, نزل بلفظه إلى النبي صلى الله عليه وسلم, أما السنة فقد لا تكون من كلامه تعالى, بل من وحيه فقط, ثم لا يلزم أن تأتي بلفظها, بل بالمعنى والمضمون.
ومن فهم هذا الفرق, يظهر أن العبرة في نقل السنة هو المعنى والمضمون, وليس ذات الألفاظ التي نطق بها النبي صلى الله عليه وسلم, والشريعة الإسلامية إنما حفظت بحفظ الله تعالى للقرآن الكريم كاملا, وبحفظه سبحانه للسنة النبوية في مجملها, ومعناها, وما بينته من كتاب الله, وليس في ألفاظها وحروفها.
ومع ذلك فإن علماء هذه الأمة على مدى القرون السالفة, قد قاموا بحفظ الشريعة والسنة, ونقلوا لنا ألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم كما قالها, وميزوا ما فيها من الصواب والخطأ, والحق والباطل.
وما يراه السائل الكريم من تعدد الروايات للحديث الواحد لا يعني أبدا التقصير في حفظ السنة ونقلها, وإنما اختلفت الروايات لأسباب عديدة, إذا تبينت ظهر الجواب واضحا, فيقال:
رابعا:
أسباب تعدد الروايات:
1 - الحادثة تعدد:
يقول ابن حزم رحمه الله في "الإحكام" (1 / 134) :
"وليس اختلاف الروايات عيبا في الحديث إذا كان المعنى واحدا, لأن النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه إذا كان يحدث بحديث كرره ثلاث مرات, فينقل كل إنسان بحسب ما سمع, فليس هذا الاختلاف في الروايات مما يوهن الحديث إذا كان المعنى واحدا" انتهى .
2 - بالمعنى الرواية:
وهو أكثر ما يسبب تعدد الروايات للحديث الواحد, فإن المهم في نقل الحديث أداء مضمونه ومحتواه, أما ألفاظه فليست تعبدية كالقرآن.
مثاله: حديث (إنما الأعمال بالنيات): فقد روي بلفظ (العمل بالنية) ولفظ (إنما الأعمال بالنية) وآخر (الأعمال بالنية), وهذا التعدد سببه الرواية بالمعنى, فإن مخرج الحديث واحد, وهو يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة عن عمر رضي الله عنه, والملاحظ أن المعنى الذي يفهم من هذه الجمل واحد, فأي ضرر في تعدد الروايات حينئذ?!
ولكي يطمئن العلماء أكثر إلى أن الراوي نقل المعنى الصحيح للحديث, كانوا لا يقبلون الرواية بالمعنى إلا من عالم باللغة العربية, ثم يقارنون رواية الراوي برواية غيره من الثقات, فيتبين لهم الخطأ في النقل إن وقع, والأمثلة على ذلك كثيرة, ليس هذا محلها.
3 - اختصار الراوي للحديث:
أي أن يكون الراوي حافظا للحديث كله, ولكن يكتفي بذكر جزء منه في حال, ويذكره كاملا في أخرى حال.
مثاله: روايات حديث أبي هريرة في قصة نسيان النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين من صلاة الظهر, فكلها جاءت عن أبي هريرة, وهي قصة واحدة, وذلك يدل على أن اختلاف الروايات سببه اختصار بعض الرواة. انظر صحيح البخاري (714) (715) (1229)
4 - الخطأ:
فقد يقع من أحد الرواة الخطأ, فيروي الحديث على غير وجهه الذي يرويه الآخرون, ويمكن معرفة الخطأ بمقارنة الروايات بعضها ببعض, وهو ما قام به أهل العلم في كتب السنة والتخريج.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "الجواب الصحيح" (3 / 39):
"ولكن هذه الأمة حفظ الله تعالى لها ما أنزله, قال تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) الحجر / 9, فما في تفسير القرآن أو نقل الحديث أو تفسيره من غلط, فإن الله يقيم له من الأمة من يبينه, ويذكر الدليل على غلط الغالط وكذب الكاذب, فإن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة, ولا يزال فيها طائفة ظاهرة على الحق حتى تقوم الساعة, إذ كانوا آخر الأمم, فلا نبي بعد نبيهم, ولا كتاب بعد كتابهم, وكانت الأمم قبلهم إذا بدلوا وغيروا بعث الله نبيا يبين لهم ويأمرهم وينهاهم, ولم يكن بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبي, وقد ضمن الله أن يحفظ ما أنزله من الذكر "انتهى.
والسنة, على الوجه الذي ذكرناه أولا, من كونها وحيا من عند الله تعالى: يبين للناس ما نزل إليهم في كتاب الله تعالى, ويعلمهم من الأحكام ما يحتاجونه في دينهم, ولو يأت تفصيله, أو أصله في كتاب الله تعالى, نقول: السنة على هذا الوجه هي من خصائص النبوة; فهذه الوظيفة هي من أجل وظائف النبوة, وما زال الناس يرون السنة على هذا الوجه, بما تحمله الكتب, أو الروايات الشفهية من اختلاف في بعض الألفاظ, أو تعدد لسياقات الحديث, ولم يكن في ذلك ما يدعو للتشكك في منزلتها , أو القلق من حفظها, أو التردد والخلاف في حجيتها وحاجة الناس إليها, على كثرة ما اختلف الناس وتنازعوا في المسائل العلمية والعملية.
يقول العلامة الشيخ عبد الغني عبد الخالق رحمه الله:
"لا نجد في كتب الغزالي والآمدي والبزدوي, وجميع من اتبع طرقهم في التأليف من الأصوليين, تصريحا ولا تلويحا بأن في هذه المسألة خلافا, وهم الذين استقصوا كتب السابقين ومذاهبهم, وتتبعوا الاختلافات, حتى الشاذة منها, واعتنوا بالرد عليها أشد الاعتناء"
ثم نقل عن صاحب المسلم, وشارحه: "أن حجية الكتاب والسنة والإجماع والقياس: من علم الكلام, لكن تعرض الأصولي لحجية الإجماع والقياس, لأنهما كثر التشغيب فيهما من الحمقى, من الخوارج والروافض (خذلهم الله تعالى), وأما حجية الكتاب والسنة: فمتفق عليها عند الأمة, ممن يدعي التدين كافة, فلا حاجة إلى الذكر "انتهى.
انظر: السنة حجية (248-249).
وانظر: السؤال إجابة ( 93111 )