حمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
فإنّ من مواسم العمل الّتي يغفل عنها كثير من النّاس: هذه الأيّام الّتي تظّلنا، وعلى أرضها تقلّنا ..
إنّنا نعيش أيّام موسم عظيم بعده موسم آخرُ عظيم .. كلّ منهما ينادي المسلم بأعلى صوته، ويدعوه من قبل موته: اغتنم هذه الأيّام قبل انقضائها ! وتمسّك بهذه الفرص قبل فواتها !..
وقد أُثِر عن الصّالحين قولهم:" إِنَّ لِلَّهِ فِي أَيَّامِ الدَّهْرِ نَفَحَاتٍ فَتَعَرَّضُوا لَهَا، فَلَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ تُصِيبَهُ نَفْحَةٌ فَلاَ يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَدًا ".
هداية لا ضلال بعدها .. رُشد لا غيّ بعده .. عمل لا انقطاع عنه ..
مضى رجب، وما أحسنت فيه *** وهذا شهـر شعبـان المبـارك
فيا مـن ضيَّع الأوقـاتَ جهلاً *** بحرمتها، أَفِـق، واحذر بـوارَك
فسوف تفارق اللذّات قسْـراً *** ويخلي الموت كـرها منك دارك
تدارك ما استطعت من الخطـايا *** فخيـر ذوي الجرائم من تدارك
فمن الأعمال الّتي يدعونا إليها هذا الشّهر الكريم
أ) تجديد التّوبة إلى الله، وأن يقبل العبد على مولاه.
ب) عبادة الصّيام.
ج) والإكثار من تلاوة القرآن الكريم [انظر مقال: شعبان .. شهرٌ يغفلُ عنه كثير من النّاس].
فهذه أعمال جليلة، ترفع النّفس إلى الفضيلة، وتُجنّبها مستنقعات الرّذيلة. وقد يتفطّن لها بعضٌ وتخفَى عن بعضٍ، ولكن ...
هناك عبادة عدّتها الشّريعة من أجلّ القربات، ورفعتها إلى أعظم الطّاعات، ألا وهي:
الإصلاح بين النّاس.
خاصّة في مثل هذه الأيّام، وفيها ليلة النّصف من شهر شعبان، فإنّ سلامة الصّدر، وترك القطيعة والهجر، شرط لرفع الأعمال، ومغفرة ذي العزّة والجلال.
فقد روى ابن ماجه عن أبي موسى الأَشعرِيِّ رضي الله عنه عن رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( إِنَّ اللَّهَ لَيَطَّلِعُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ، إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ )).
ولا يخفى على أحد ما رواه مسلم عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنّ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم قال: (( تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ:" أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا.. أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا.. أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا..")).
وفي رواية: (( إِلَّا الْمُتَهَاجِرَيْنِ )).
فما على المؤمن إلاّ أن يسارع إلى أن يُصلح الأمر بينه وبين إخوانه، وأقاربه وجيرانه .. أقبل عليه وسارع إليه، وأخبره أنّك - والله - ما أتيته طمعا في جاه ولا مال، أو متاع مصيره إلى زوال، ولكن أتيته ابتغاء مرضاة الكبير المتعال.
فإن وفّقه الله إلى قبول اعتذارك، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وإلاّ فقد أدّيت الّذي عليك، وباء بإثمك وإثمه، وكان هو المشاحن.
وترغيبا في هذا العمل العظيم، ونيل الثّواب الجسيم، إليك - أخي القارئ - هذه الكلمات، في سطور معدودات، فيها بيان فضل الإصلاح بين المتهاجرِين، ولمّ شمل المتفرّقين، وذلك من وجوه:
1- إنّ الإصلاح بين النّاس خير الكلام:
فقد قال المولى تبارك وتعالى:{لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:114]..وقال جلّ جلاله:{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: الآية128].
2- وهو من لوازم التّقوى والإيمان:
فقد قال عزّ وجلّ:{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: من الآية1].
3-وهو من أعظم حقوق الأخوّة:
قال تبارك وتعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10].
وقال جلّ ذكره:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9].
فلم يقل: انفُروا .. وافشَلوا .. وتكلّموا .. ولكنّه قال: (أصلحوا).
4- وإنّ الله أباح الكذب لأجل الإصلاح:
بل لم يعُدّه كذبا أصلا، فقد روى البخاري ومسلم عن أمِّ كُلْثُومٍ بنتِ عقبةَ قالت: سمعتُ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: (( لَيْسَ بِالْكَاذِبِ مَنْ أَصْلَحَ بَيْنَ النَّاسِ فَقَالَ خَيْرًا أَوْ نَمَى خَيْرًا )).
وروى التّرمذي عن أسماءَ بنتِ يزيدَ قالت: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( لَا يَحِلُّ الْكَذِبُ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: يُحَدِّثُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ لِيُرْضِيَهَا، وَالْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ، وَالْكَذِبُ لِيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ )).
5- وجعل الله تعالى الإصلاح بين النّاس أفضل الأعمال:
فقد روى التّرمذي عن أبي الدّرْداءِ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ ؟ قَالُوا: بَلَى ! قَالَ: (( صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ )).
وأقبح الأعمال إفساد ذات البين، فقد روى التّرمذيّ أيضا عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( إِيَّاكُمْ وَسُوءَ ذَاتِ الْبَيْنِ فَإِنَّهَا الْحَالِقَةُ )) الحالقةُ: تحلقُ الدّين.
6- وجعله من الصّدقات:
فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:
(( كُلُّ سُلَامَى مِنْ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ: يَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى الصَّلَاةِ، صَدَقَةٌ وَيُمِيطُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ )).
[يعدِل بين اثنين: يصلح بينهما].
7- وقد جعله الله تعالى من أسباب كسب قلوب النّاس:
بل إنّ المصلح بين النّاس يُرفع سيّدا بينهم؛ فإنّ المواقف الطيّبة لتشهد على الرّجل أكثر من الكلام.
وخير دليل على ذلك أنّ العرب ما عظّمت هَرِمَ بنَ سِنَان، وخُلِّد ذكره في كلّ ديوان، إلاّ لأجل أنّه أصلح بين عبس وذبيان، وأطفأ الله به حربهم الّتي دامت أربعين سنة !
وقد روى البخاري ومسلم عن أبي بكرَةَ رضي الله عنه قال: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم عَلَى الْمِنْبَرِ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى جَنْبِهِ وَيَقُولُ : (( إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ )).
8- ونهى الله تعالى عن الحلف على ترك الإصلاح بين النّاس:
فقال جلّ ذكره:{وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:224].
أمّا المفسِد لذات البين، فذاك الخبّ اللّئيم، والنمّام الرّجيم، الّذي لا يهدأ له بال، ولا يستقرّ على حال، حتّى يُوقِعَ بين اثنين، ويهدم كلّ ما بناه الشّرع بهذه التّعاليم !
فلا جرم أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَبَّبَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا، أَوْ عَبْداً عَلَى سَيِّدِهِ )).
(( لَيْسَ مِنَّا )) ! وإذا سألت: إذن فمن أيّ جنسٍ هو ؟
فأنصِت إلى ما رواه مسلم عنْ جابرٍ رضي الله عنه عنِ النَبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال:
(( إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا. ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ ! فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْت. فَيَلْتَزِمُهُ )).
هذا فرّق بين المرء وزوجه، فكيف بمن فرّق بين أسرتين ؟ وبين جماعتين ؟
فاللهمّ وحِّد صفوف المسلمين، ولُمَّ شتات المؤمنين، واجمعهم على كلمة الحقّ، ودعوة الصّدق، ولا تجعل لمؤمن غِلاًّ في قلوبنا، واسلُل سخيمة صدورنا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.